على هامش زيارة عمل في ألمانيا، زرت الأسبوع الماضي مدينة فرانكفورت حيث حرصنا أنا وزميلي المصرفي البارز هاني شعراوي على زيارة الاعتصام الذي أقامه مجموعة من النشطاء في حديقة عامة بالقرب من البنك المركزي الأوروبي، والتعرف عن قرب على ظروف اعتصامهم ومطالبهم وأنشطتهم وكيفية إدارة هذا الاعتصام، إذ بدت لي هذه الفرصة كنافذة على مجتمع مختلف، يعيش حالة من الاحتجاج السلمي الفريد.
أقام المعتصمون أكثر من خمسين خيمة منذ شهر أكتوبر 2011 الماضي، للإعراب عن احتجاجهم على سياسات الرأسمالية والمصارف التي تؤدى إلى إفقار عامة الناس، وقد اعتبر هؤلاء أن البنك المركزي الأوروبي رمز لتلك السياسات وطرف في الأزمة، خصوصا أنه لعب دورا فى فرض سياسة التقشف على الدول التي أثقلتها الديون، واليونان فى مقدمتها، لذلك فإنهم قرروا أن يقيموا مخيمهم بالقرب من مقر البنك فى المدينة الألمانية الصناعية، تحت شعار “لنحتل فرانكفورت”، على غرار حملة “لنحتل وول ستريت” الأمريكية.
كعربي مصري، لفت انتباهي في هذا الاعتصام أسلوب تعامل السلطات الألمانية مع المتظاهرين، على عكس بعض التجارب المريرة في بلادنا، بدا لي أن الشرطة هنا كانت تتعامل مع المعتصمين بتفهم واحترام، بعض المحتجين قالوا إن أقسى ما تعرضوا له كان رش المياه ودفع الأذرع، وحتى هذه الحالات كانت نادرة، مما يبرز نموذجاً مختلفاً في التعامل مع الاحتجاجات.
خلال جولتني في المخيم، سجلت عدة ملاحظات أحبتت أن أشاركها معكم:
– رغم برودة الجو الشديد خاصة في الليل، ظل المعتصمين صامدون، المتحدث باسم مكتب النظام العام المسؤول عن تصاريح الاعتصامات، أشار إلى أنهم لا يمانعون في استمرار الاعتصام طالما كان المعتصمون قادرين على تحمل ظروف البرد القاسية!
– أقام النشطاء منصة للإعلام، مصنوعة من مواد بسيطة، لتوزيع المنشورات وجمع التبرعات التي تستخدم في توفير مرافق ضرورية مثل الحمامات المتنقلة ولزوم الإعاشة وغيرها.
– قدمت إدارة الاعتصام وجبات للمعتصمين والزوار، من إيرادات التبرعات.
– أنشئت إدارة الاعتصام موقعًا إلكترونيًا وشبكة علاقات عامة، بالإضافة إلى خيمة للاجتماعات العامة.
– أحد المعتصمين بنى تمثالًا من إطارات الدراجات والدمى والعلب الفارغة دون تدخل من الشرطة، ما يعكس التسامح والتفهم من جانب السلطات.
– توافد الطلاب من مدارس المدينة إلى المخيم للاطلاع على آراء المعتصمين، وذلك تحت إشراف “مرشد” يجمعهم مع ممثلي النشطاء بتواجهاتهم المختلفة.
– حرص المحتجون على عدم تعطيل حركة المشاة في الممرات المؤدية إلى الحديقة، رغم قربهم من مقر البنك المركزي الأوروبي، حتى خلال اجتماع مجلس إدارة البنك، لم يسعَ أحد لإزعاج الموظفين، بل اكتفوا بتوزيع أوراق دعائية تشرح موقفهم.
أكثر ما أثار إعجابي هو العلاقة الودية بين المحتجين والشرطة، وصف المعتصمون الشرطة بأنها كانت حامية لهم بدلاً من أن تكون مصدر إزعاج، حتى أن بعضهم اعتبرها حليفًا غير معلن، هذه العلاقة الفريدة بين المتظاهرين والسلطات تعكس مستوى متقدمًا من الوعي والتعاون المدني، ما يجعل تجربة “احتلال فرانكفورت” نموذجًا للاحتجاج السلمي الواعي.
هذه التجربة الفريدة تُظهر أنه يمكن للاحتجاج أن يكون وسيلة فعّالة للتعبير عن الرأي دون اللجوء إلى العنف، وأن السلطة يمكن أن تكون شريكًا في الحفاظ على الأمن دون قمع الحريات، درسٌ ربما نحتاج جميعًا إلى استيعابه وتطبيقه في مجتمعاتنا.